«نقص المساحات الآمنة».. تكدس النازحين في غزة يفاقم المأساة الإنسانية
«نقص المساحات الآمنة».. تكدس النازحين في غزة يفاقم المأساة الإنسانية
منذ اندلاع الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة في 7 أكتوبر 2023، شهدت المنطقة واحدة من أسوأ موجات النزوح القسري في تاريخها، حيث دفعت العمليات العسكرية المستمرة وسياسة القصف المكثف، الملايين من سكان القطاع إلى مغادرة منازلهم في ظروف قاسية، وسط تقليص مستمر للمساحات الآمنة التي يمكن اللجوء إليها.
ولا يعكس هذا التهجير القسري انتهاكًا صارخًا لحقوق الإنسان فقط، بل يمثل حالة من الإبادة الاجتماعية الممنهجة في منطقة تعاني أصلاً من أزمة إنسانية خانقة منذ سنوات طويلة بفعل الحصار الإسرائيلي المستمر.
وفقًا للمكتب الإعلامي الحكومي في غزة، بلغ عدد النازحين داخليًا في القطاع ما يقارب مليوني شخص حتى أواخر أغسطس 2024، من أصل 2.3 مليون نسمة يمثلون إجمالي سكان القطاع.
ويمثل التهجير الجماعي لسكان غزة نسبة تفوق 85% من السكان، وهو رقم يضع القطاع ضمن أكثر المناطق اكتظاظًا بالنازحين في العالم، فاللاجئون الفارون من القصف الإسرائيلي المتواصل يضطرون إلى البحث عن مأوى في أماكن مكتظة بالفعل، حيث تتضاءل المساحات المتاحة لهم شيئًا فشيئًا مع استمرار القتال.
النزوح سيرًا على الأقدام
تتفاقم المعاناة بسبب الافتقار إلى وسائل النقل، ما دفع العديد من العائلات إلى النزوح سيرًا على الأقدام، حاملين أمتعتهم في مشهد يذكر بالنزوح الجماعي خلال نكبة 1948.
ولم تتردد إسرائيل، التي تتذرع بحجة الدفاع عن نفسها ضد الهجمات الصاروخية التي تطلقها حركة حماس وفصائل أخرى، في إصدار أوامر بالإخلاء القسري للمناطق السكنية المكتظة، فعلى سبيل المثال، أمر الجيش الإسرائيلي في أكتوبر 2023 سكان بيت حانون وأحياء أخرى في شمال غزة بإخلاء منازلهم فورًا.
هذه الأوامر، التي أطلقها المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي، أفيخاي أدرعي، شملت مناطق مأهولة بأعداد كبيرة من المدنيين الذين يفتقرون إلى أي ملاذ آمن، عمليات الإخلاء هذه لا تتم فقط تحت ضغط العمليات العسكرية، بل أيضًا في ظل تدمير واسع للبنية التحتية، حيث أصبحت مناطق بأكملها غير قابلة للسكن بفعل الدمار.
وأدانت المنظمات الحقوقية الدولية بشدة هذه السياسات الإسرائيلية، والتي تمثل خرقًا واضحًا للقانون الدولي الإنساني.
انتهاك صارخ لحقوق الإنسان
وصفت منظمة هيومن رايتس ووتش التهجير القسري لأهالي غزة بأنه "انتهاك صارخ لحقوق الإنسان"، بينما اعتبرت منظمة العفو الدولية أن إخلاء السكان المدنيين تحت التهديد العسكري والقصف يمثل جريمة حرب بموجب اتفاقيات جنيف، التي تنص على حماية المدنيين في زمن الحرب وتمنع عمليات التهجير القسري، ومع ذلك فإن هذه الإدانات لم تسفر عن أي تغيير في النهج الإسرائيلي الذي يبدو مصممًا على تصعيد الهجمات العسكرية بغض النظر عن التكلفة الإنسانية.
من جانبه، أكد المتحدث باسم وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، عدنان أبو حسنة أن التقليص المستمر للمساحات الآمنة في قطاع غزة يضع مئات الآلاف من الفلسطينيين في دائرة الخطر الداهم، ففي يوليو 2024، تراجعت المساحات التي يمكن اعتبارها آمنة للمدنيين إلى أقل من 11% من إجمالي مساحة القطاع، التي تبلغ نحو 365 كيلومترًا مربعًا.
وجعل هذا التقليص الدراماتيكي، كما وصفه أبو حسنة، الهروب من القصف شبه مستحيل بالنسبة لمعظم العائلات الفلسطينية، حيث لم يعد هناك مكان يمكن اعتباره ملاذًا آمنا من الضربات الجوية أو التوغلات البرية.
وبحسب أرقام الأمم المتحدة، فإن ما يقارب مليون وثمانمئة ألف نازح يعيشون الآن في أقل من 40 كيلومترًا مربعًا من المساحة المتاحة، هذا الاكتظاظ الشديد أدى إلى تفاقم الأوضاع الإنسانية بشكل كارثي، فالمنظمات الدولية، بما في ذلك الصليب الأحمر الدولي، أصدرت تحذيرات متكررة من تفاقم أزمة نقص المياه والطعام، حيث لا يستطيع العديد من النازحين الحصول على الغذاء الكافي أو حتى مياه الشرب الآمنة.
وفي ظل غياب النظام الصحي الفاعل، بسبب تدمير المستشفيات واستهداف سيارات الإسعاف، بدأت الأوبئة تنتشر بسرعة. فالتهاب الكبد الوبائي، على سبيل المثال، ينتشر بمعدل يزيد على 1000 حالة أسبوعيًا، في حين تم تسجيل أول حالات شلل الأطفال بعد اكتشاف الفيروس في مياه الصرف الصحي.
شل حركة الإغاثة
وأدى التكدس السكاني في المناطق القليلة المتاحة إلى شل حركة الإغاثة والفرق الطبية، ففرق الدفاع المدني تجد نفسها غير قادرة على الوصول إلى العديد من المناطق المتضررة، حيث تصبح الطرقات مكتظة بالعائلات الهاربة، ما يعوق حركة سيارات الإسعاف والإغاثة، هذا الزحام يفاقم الخسائر البشرية، حيث يتأخر وصول المساعدات إلى الجرحى والمصابين بسبب القصف.
وفقًا لتصريحات مدير الإمداد في الدفاع المدني، محمد المغير، فإن كل كيلومتر مربع في المناطق المتاحة للنازحين يشهد تكدسًا لآلاف الأشخاص، ما يجعل الاستجابة لنداءات الاستغاثة شبه مستحيلة.
ويعبر النازحون أنفسهم عن إحساس عميق باليأس، ووصف برهوم أحمد، أحد النازحين من خان يونس، الوضع عبر وسائل إعلامية قائلاً: "كلما ذهبنا إلى مكان جاء الجيش وأمرنا بمغادرته الآن، معظم مناطق غزة تحولت إلى مناطق خطرة نفترش الطرقات بأطفالنا ولا نعرف إلى أين نذهب" هذا الشعور بـ(اللا يقين) يسيطر على معظم النازحين الذين اضطروا لمغادرة منازلهم تحت تهديد السلاح، ليجدوا أنفسهم في حالة دائمة من التشرد والفقر.
وفي ظل هذه الأزمة المتفاقمة، تزداد المخاوف بشأن التداعيات الصحية والنفسية طويلة الأمد الأطفال، الذين يشكلون نصف سكان القطاع، يعانون بشكل خاص من هذه الأزمة.
الأطفال أكثر تأثرا
وفقًا لتقارير منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسف)، فإن الأطفال يمثلون الفئة الأكثر تأثرًا بالأوضاع الراهنة، هم يعيشون في حالة دائمة من الرعب والخوف، حيث لا يستطيعون الوصول إلى التعليم أو الرعاية الصحية المناسبة، فمثلا اليونيسف حذرت من أن جيلاً كاملاً من الأطفال الفلسطينيين قد يعاني من اضطرابات نفسية طويلة الأمد، بما في ذلك اضطرابات ما بعد الصدمة.
وندد حقوقيون بتجاهل إسرائيل الدعوات الدولية لوقف إطلاق النار أو حتى التخفيف من حدة عملياتها العسكرية، فعلى الرغم من صدور عدة قرارات من مجلس الأمن الدولي تطالب بوقف فوري للعمليات العسكرية والسماح بدخول المساعدات الإنسانية، فإن هذه القرارات لم تجد أي صدى على الأرض في المقابل، تواصل الولايات المتحدة تقديم الدعم العسكري والاقتصادي لإسرائيل، ما يعزز قدرتها على مواصلة عملياتها دون رادع.
وتدهور الوضع الاقتصادي في غزة بسرعة أيضًا، فالحصار المفروض على القطاع منذ أكثر من عقدين، إلى جانب التدمير المستمر للبنية التحتية، جعل من الصعب جدًا على السكان الحصول على سبل العيش.
وفقًا لتقديرات الأمم المتحدة، فإن تكلفة إعادة إعمار غزة بعد الحرب الحالية قد تصل إلى مليارات الدولارات، ومن المتوقع أن تستغرق عقودًا حتى تعود الحياة إلى ما كانت عليه قبل النزاع؛ معظم الشركات والمؤسسات الاقتصادية في غزة توقفت عن العمل، ما أدى إلى ارتفاع معدلات البطالة إلى مستويات قياسية، هذا التدهور الاقتصادي يضع ضغوطًا إضافية على السكان، الذين يعانون بالفعل من الجوع والفقر.
تفشي الأمراض المعدية
وفي ظل هذا الانهيار الشامل، تظل الجهود الدولية قاصرة عن تقديم حلول جذرية، حيث تشير تقارير المنظمات الحقوقية الدولية إلى أن الوضع في غزة يتطلب تدخلاً عاجلاً لوقف الكارثة الإنسانية المتصاعدة فقد حذرت منظمة الصحة العالمية، من أن تفشي الأمراض المعدية قد يخرج عن السيطرة إذا لم يتم تأمين المياه النظيفة والغذاء المناسب للسكان كما دعت إلى فتح ممرات إنسانية آمنة للسماح بإيصال المساعدات الطبية والغذائية إلى المناطق الأكثر تضررًا.
نزوح اضطراري للسكان
وقال عضو المؤسسة الفلسطينية لحقوق الإنسان "شاهد"، علاء موسى: إنني بعد 7 أكتوبر، وجدت نفسي وسط كابوس يتكرر كل يوم، لم يكن الهجوم العسكري مجرد أحداث تتناقلها الأخبار، بل كان واقعًا مرعبًا؛ العائلات تتدفق في الشوارع، تهرب من جحيم إلى جحيم، القصف وأصوات الانفجارات تملأ الأجواء، وكأنها تلاحقنا حتى في أحلامنا، نزوح اضطراري يوميًا من مكان نظنه آمنا يتضح بعد ساعات أنه لم يكن كذلك مع موت أهالينا.
وتابع موسى، في تصريحات لـ"جسور بوست": الشعور بالخوف كان يسري في عظامنا، كلما سمعت صفارات الإنذار، كنت أرى الأعين تتسع بالرعب العائلات كانت تتجمع، وتحمل أمتعتها المحدودة، وأحيانًا مجرد بعض الملابس والذكريات، لم يكن لدينا وقت للتفكير، الخروج من المنزل كان قرارًا مصيريًا، ومن يخرج قد لا يعود… هذه الفكرة رافقتني، وأثقلت كاهلي.
واسترسل: عندما تم إعلان الإخلاء من مناطقنا، شعرت وكأن العالم يتفكك حولي، كانت أوامر الإخلاء تصدر في لحظات غير متوقعة، ووسط ركام من الخوف والقلق، كنا نندفع نحو المجهول، عائلات كثيرة كانت تفترش الأرض، تضرب خيامًا مؤقتة في الشوارع أو داخل المدارس، محاولين العثور على الأمان في أماكن أصبحت مليئة بالذعر، العيش في هذه الظروف كان يجرّدني من أبسط حقوقي، فالأماكن التي تعتبر آمنة اليوم، قد تتحول إلى خطر داهم في اللحظة التالية، وبينما كنا نحاول البحث عن مأوى، كان الكثيرون منا يتذكرون منازلهم المهدمة، شعور الفقدان كان حادًا، فكلما نظرنا حولنا، كانت تحاصرنا ذكريات منازلنا القديمة.
وقال علاء، إنه خلال الأيام التي تلت التهجير، كانت حالات الطوارئ تتزايد، المياه والطعام أصبحا نادرين، والذعر يتصاعد كلما زادت أعداد الأطفال، الذين كان يجب أن يكونوا في مدارسهم، أصبحوا يتجمعون في الشوارع أرى في عيونهم شيئًا أكبر من الخوف، إنها نظرة انكسار، إنهم لا يفهمون لماذا أصبح عالمهم مليئًا بالحطام والخراب.
محاصرون في حلقة من العذاب
واستكمل: الأمراض بدأت تنتشر، كان هناك شعور دائم بأننا محاصرون في حلقة مفرغة من العذاب، غياب الرعاية الصحية جعل الأمراض المعدية تنتشر، خاصة بين الأطفال الذين كانوا في أمس الحاجة للحماية، كلما زادت معاناتنا، كان الأمل يختفي أكثر.
وحكى علاء عن جانب إيجابي قائلًا: على الرغم من كل هذه المعاناة، كان هناك شعور قوي بالترابط بين الناس، عائلات عديدة تكافح للبقاء على قيد الحياة، ونتبادل الطعام والماء، ولكن هذه الروابط الإنسانية لم تكن كافية لدرء الخطر الداهم… في كل لحظة، كان الخوف يرافقنا، مذكرًا بأن الوضع قد يزداد سوءًا.
وأتم: كلما أنظر إلى السماء، أتمنى أن تأتي اللحظة التي أستطيع فيها العودة إلى منزلي لكن في ذلك الوقت، كان الأمان مجرد حلم بعيد التهجير القسري لم يكن مجرد انتهاك لحقوقنا، بل كان اختراقًا عميقًا لكرامتنا في النهاية، نحن بشر، وعلينا أن نعيش بكرامة، لا أن نكون مجرد أرقام في إحصائيات الحرب.
أزمة إنسانية خطيرة
وقال خبير القانون الدولي، والأكاديمي عبد الله سعداوي، إن التهجير القسري الذي شهدته غزة بعد 7 أكتوبر 2023 يعكس أزمة إنسانية خطيرة، حيث يتعرض السكان المدنيون لاعتداءات ممنهجة تتعارض مع القوانين الدولية، بموجب القانون الدولي الإنساني، يُعتبر التهجير القسري جريمة حرب، إذ يستهدف المدنيين ويقوض حقهم في الحياة والكرامة. فالبيانات تشير إلى أن ما يزيد على مليوني فلسطيني قد تم تهجيرهم، ما يُظهر حجم الكارثة الإنسانية التي تعاني منها المنطقة.
وتابع سعداوي، في تصريحات لـ"جسور بوست"، أن الحق في السكن هو أحد الحقوق الأساسية التي يكفلها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والذي ينص على أن لكل فرد الحق في مستوى معيشة يكفي لضمان الصحة والرفاه، إلا أن الهجمات العسكرية المستمرة وقرارات الإخلاء القسري، التي تفرضها السلطات الإسرائيلية، تؤدي إلى فقدان المنازل والأمن الشخصي، كلما انخفضت المساحات الآمنة، ارتفع عدد الأشخاص الذين يعيشون في ظروف مزرية، حيث يعيش الكثيرون في خيام أو في أماكن غير ملائمة، ما يعرضهم لمزيد من المخاطر الصحية والنفسية.
وقال الخبير الدولي: إن الوضع القائم لا يعكس فقط انتهاك الحقوق الفردية، بل يُظهر أيضًا فشل المجتمع الدولي في التصدي لهذه الانتهاكات، فقرارات مجلس الأمن الدولي التي تدعو إلى وقف الأعمال العدائية لا تجد طريقها للتنفيذ، ما يُعطي الضوء الأخضر لاستمرار الانتهاكات هذه الحالة تعكس انعدام الثقة في المؤسسات الدولية، حيث يشعر الفلسطينيون بأن أصواتهم تُهمل في أوقات الأزمات.
وتابع: الأثر للتهجير القسري يتعدى الأبعاد المادية، إذ يترك ندوبًا عميقة على المجتمعات، فالشعور بالفقدان والقلق المستمر يؤديان إلى ارتفاع معدلات الاكتئاب والقلق بين النازحين، وهو ما يتطلب تدخلاً عاجلاً من منظمات الصحة النفسية في هذا السياق، يُعتبر عدم توفير الدعم النفسي والاجتماعي انتهاكًا لحق الأفراد في الرعاية الصحية الشاملة، في نهاية المطاف، إن التهجير القسري في غزة ليس مجرد إحصاءات، بل هو مأساة إنسانية تتطلب تحركًا فعّالًا من قبل المجتمع الدولي.
وأتم: الحقوق الأساسية التي تم انتهاكها يجب أن تكون محور الاهتمام، وعلى الحكومات والمنظمات الدولية أن تتحمل مسؤولياتها في حماية حقوق الإنسان وضمان العودة الآمنة للنازحين إلى منازلهم، فالأمل في استعادة الحقوق المهدورة يتطلب إرادة قوية لتحقيق العدالة والسلام في المنطقة.